مظفر النواب : روح العراق و خطاه الثابتة

 
ما يبدو من قامة مظفر النواب ليس الا ذلك القسم البارز من جبل الجليد العائم. بعد عقود من الزمن على متابعته وقربه وقراءة ما يكتبه او يكتب عنه اجد ان هذا الكائن العراقي ربما افضل رمز للشخصية العراقية الإيجابية. وفي مستويات رصد الفعالية الإنسانية يرتفع رصيد مظفر ليكون القمة التي يتطلع اليها الكثير. فهو بطل امتحنته السجون والمنافي كما اختبرته معاجم اللغة والمعاني والحساسية الفائقة في مقاييس الشعراء. ترى اي مكان اكثر لياقة من ان يمتحن المرء على يد ارباب الشعر واسياده؟
انه سابق لجيله ومغامر لا يحزر المراقب وجهته. نجاحه في السياسة ترافق مع القدر نفسه من الالمعية مع نجاحه في عالم الفكر والادب. وحيثما انتقل وسافر كان يجد على الدوام كرسيه معداً وجاهزاً. وحيثما التحق بمائدة ندماء وسمار وجد المائدة مهيأة، ووجد خبزه الساخن على طبقه الخاص. 
ومع ذلك كان غاضباً.. واحياناً غاضبا جداً مما حوله ومن حوله. في احدى الأماسي بدمشق اشعل الحضور بقراءة كاسحة لكل ما سترته العبارات المنافقة والخشية من العقاب، فقال في السلطان والملوك ما لم يقل احد. شتم الحاكمين بقسوة فاحشة وترك القاعة الى بيروت قبل ان ينتبه مندوبوهم وعسسهم الى ما كان يفعل.
قال لهم كما قال ذلك الصبي للملك عن عريه المغلف بنفاق حاشية تلون وتجمل العار والإفلاس للملك والسلطان. ولكنه بهذا لم يستهدف اولئك الحكام الفاسدين بل انه وضع للمثقف والفنان والشاعر سقفاً اخلاقياً لا يمكن ان تكتمل الفعالية الإنسانية الا به. كان بعراقيته المهيمنة يرجم وعاظ صدام حسين من شعراء وكتاب وفنانين. وكان بانتمائه للعرب والعروبة الحقيقية رفيقاً في كل محفل. وشريكاً لكل سجين في زنزانته، وسميراً لكل ساهر في المنافي البعيدة عن وطنه وبيته. 
مظفر اجمل الندماء واخفهم وطأة على الأحياء فهو قريب منهم يمكن لهم ان يألفوه بيسر ويمرحوا مع قصائد غزله او يبكوا في حضرة المعذبين المتمسكين بالأمل المستحيل وبالقضية المستحيلة يستعدون لمنح ارواحهم ضحايا لهذا الوطن الرائع وذاك الإنسان الكبير: المناضل من اجل شعبه والمقاتل من اجل الجمال والحس الشفاف والنبرة مستحيلة العزف. 
في السجن وفي البيوت المتمادية في بعدها وتناهيها وفي الساحات العامة والمقاهي والتجمعات كانت اغاني وقصائد مظفر مسك الختام وذروة الانفعال الإنساني. 
في نقرة السلمان كتب قصيدته «براءة» ليهجو فيها تقليداً رذيلاً شجعه نظام المعزة الشهيرة باسم عبد السلام عارف وهي اجبار المناضلين على تقديم براءات من الشيوعية مقابل الإفراج عنهم.. ومع انها فعلت فعلها هنا، إلا ان البعثيين الذين كانوا اكثر الناس تعسفاً ازاء الناس العزل والضعفاء لم يحتملوا في عهد تلك المعزاة حتى تلك الظروف المخففة من التأنيب فكانت القصيدة سلاحهم لتشجيع اعضائهم على صمود مماثل. هكذا عندما طلب صدام لقاء مظفر شكر له قصائده الوطنية ومنحه الشيء الوحيد الذي يعدّه قوة تضاف إلى المرء: مسدساً. ظل المسدس ملقى في زاوية مهملة في بيته حتى كان المنفى الجديد بيته الآخر وبجانبه نص القصيدة التي منها: 
لا تصل يمنه وهاك اخذ عار الجريدة 
ولف ضميرك والكرامة 
مثل ما تبريت من شعبك 
تبرينه من اسمك. 
 
ومظفر الذي طوقني بثقته
معي كان مظفر اكثر من كريم ومنحني ما لم يتمكن او يتصور احد انه يمكن ان يمنحه: الثقة بالمناضل واحترامه. فقد حصل ان خطفنا بداية الثمانينيات، انا واثنان من رفاقي المعارضين لصدام في بيروت استشهد على اثرها احدنا واصبنا على يد العملاء اللبنانيين ومن ثم جرى اعتقالنا بانتظار تسفيرنا واستكمال الصفقة مع برزان التكريتي. ثارت ضجة كبيرة بسبب كشف عملية الاختطاف وبسبب اغتيال المناضل فهد العراقي (واسمه الاصلي زهير كمال الدين). وربط المناضلون ضد الدكتاتورية بين هذه العملية وعملية اختطاف المعارض السعودي ناصر السعيد الذي اختفت اخباره بعد الاختطاف وانتهى ذكره الى الابد، وتسربت اخبار عن تنسيق سعودي مع مسؤول امن فلسطيني ومع المخابرت اللبنانية نظم العملية التي جرى نقل السعيد بطائرة خاصة الى السعودية. 
وبدا كما لو ان مصيرنا كان سيكون الاختفاء او التبخر مثل الفقيد السعودي لولا اننا قاومنا عملية التوقيف وحاولنا منعها الأمر الذي انتهى باغتيال زهير واعتقالنا. تحرك مظفر ومعه الراحل الكبير هادي العلوي والراحل محمد الحبوبي لدفع الحكومة السورية للضغط على اللبنانيين وصولاً الى الإفراج عنا. ولكن الجانب اللبناني حين شعر بورطته حاول التملص والتأخير وزاد مظفر وهادي ضغطهم على اللبنانيين من خلال العلاقات الدولية والأحزاب الوطنية اللبنانية من دون جدوى.
ولكن مظفر لفرط حبه وثقته لم يستسلم فعمد بمساعدة سخية من حبيب راحل آخر هو محمد الحبوبي، انتزع ملف التحقيق برمته مقابل خمسة آلاف دولار ليرى حرفياً افادتي قبل ان يتوجه مجدداً الى الرئيس حافظ الأسد ليضعها امامه وينسف مؤامرة الأمـن اللبنانـي وتغطيتـه علـى الوقائـع.
وفعلاً كانت هذه المثابرة والجسارة التـي قادها مظفر وهادي العلوي حبل الإنقاذ لنا وجرى تعطيل تسليمنا وترحيلنا الى مخابرات صدام بليل. كان اتباع الجماعات المارونية الموالية لإسرائيل التي احتلت لبنان وقتها يظنون ان جبهة الوطنيين اللبنانيين المتحالفين مع سوريا قد انكسرت من دون عودة، وراهنوا على الوقت لتكريس وقائع ما بعد الاحتلال للمضي قدماً في عملية تسليم هديتهم لصدام كما فعلوا من قبل مع السعوديين. 
بعد اربع سنوات ونصف السنة من الاعتقال والتعذيب والذل تنفسنا الحرية وخرجنا ورأسنا مرفوعة بفضل شجاعة مظفر.. هذه اللحظة التي اروي فيها ما حصل او جزءاً منه بالأحرى هي بمنزلة تكريم وتمجيد لبطل من بلادنا. وهو كان في استقبالي عند خروجي واحتفل معي بنهاية كابوس دفعت ثمنه خمس سنوات من الاعتقال.
انا انحنـي لمظفر كرفيـق فـي النضـال وكشهـم يمثـل اجمل ما في الشهامة العراقية من قيمة ويجسد خصلة بدا ان مجتمعنا الحالي في العراق نسيها وطواها تحت بساط وغبار الزمن الرديء الذي نعيشه.
 
مظفر والهروب الكبير
من سجن الحلة
بالنسبة إلى الذين لم يعرفوا عن مظفر غير شعره سيتفاجأون من قوة شكيمته وقدرته على تسوية المعضلات المعقدة وتشجيع وبث الحماسة في قلوب الأسرى السياسيين الذين اعتادوا عسف انظمة الانقلابات الدموية ورعاة القسوة والظلم وارباب السوابق المخابراتية ممن باعوا العراق لعقود من الزمن في سوق النخاسة السياسية. ففي الوثيقة هائلة الأهمية التي دوّنها العزيز جاسم المطير من منفاه في هولندا عرفت من اين تنبثق الحكمة السياسية والقوة القيادية لمظفر النواب الذي كان في ممارسته اليومية لأعقد القضايا السياسية الناجمة من تقسيم جسد الحزب الشيوعي ومنظماته عند تأسيس القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ومناخات انعدام الثقة والتشكيك واحياناً التهور الذي يصل الى درجة عدم التردد في اجهاض اي مبادرة ممكنة للعمل في السجون على مخططات تحرير القيادات الثورية في البلاد التي عاثت بها انظمة عارف وبعده البعث فساداً. 
وكان للدور القيادي لمظفر ومقدرته على خلق توازن مقبول وساري المفعول بين الذين يحفرون النفق في سجن الحلة وهم أغلبهم من تنظيم القيادة المركزية والجناح الثاني من الحزب الشيوعي الموالي لموسكو. وكانت معضلات وعقبات قاتلة ومجهضة تبرز بين آونة وآونة اخرى وفي المراحل المختلفة من عملية الحفر وما تتضمنها من حيل ومخارج للتخلص من أي آثار تثير شبهة السجانين وتسمح لهم بشم رائحة الهرب الجارية. 
ووصلت العقبات والتهديد بإجهاض العملية مرحلة خطرة للغاية وهم على بعد سنتميترات من استنشاق هواء الحرية ومباشرة الخروج الى العراق الفسيح. ولكن مظفر بحكمته وجاذبيته ومقدرته على كسب ثقة الجميع تجاوز عقبة اللحظة الأخيرة، ونجح اكبر هروب للسجناء الثوريين في تأريخ منطقة الشرق الأوسط برمتها. 
ولعلي لا ابالغ بالقول: ان التفصيلات التي وردت في وثائق جاسم المطير وغيره من المناضلين جعلتني اؤمن بأن المناضلين العراقيين بوسعهم اجتراح المعجزات لو توافرت لهم، الى جانب الإرادة، القيادة الحكيمة وثابتة الجنان كما تجسد ذلك في قيادة مظفر.
اننا نحتفل به اليوم قبل الغد بوصفه عضواً لا غنى عنه من أعضاء جسد العراق الثوري الذي يدلل بأدق صورة على ان قيم الكفاح من اجل الحرية والتقدم في العراق شيء يستحق ان نتوّج به رؤوسنا ونرفع هاماتنا امام بقية الأمم والشعوب.
عمراً مديداً هانئاً لك يا مظفر العراق الذي تفخر الامهات بك كما الأجداد والأحفاد.
 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة